في مجالس هارون الرشيد

Admin عدد المساهمات : 2278 تاريخ التسجيل : 05/09/2009

في مجالس هارون الرشيد

كان وقوع بعض القواد، والقضاة، والعلماء، والنحاة، والأعراب والعامّة، والأطفال في مواقف حرجة مع هارون الرشيد من أهم أسباب ازدهار هذا الفن النثري في مجالسه، إذ وجدوا فيه وسيلة أدبية رائعة للخروج من هذه المواقف والتنصل منها بطريق محمودة العواقب.
وهو هنا فن نثري عماده الذكاء والفطنة، وسرعة البديهة في الرد، والثقة في النفس، والقدرة على الجدل والإقناع، والتمكن من الفصاحة والبلاغة ووسائل التأثير البيانية والنفسية في المتلقي، ومن أهم خصائصه الفنية: الإيجاز، وعمق المعنى وطرافته، وعنصر المفاجأة والإدهاش.
فمما وقع منه لبعض القواد: ما جاء في هذين الخبرين ليزيد بن مزيد الشيباني وحميد الطوسي:
فأما يزيد الشيباني؛ فقد قيل: "كان الرشيد يلعب الصَّوالِج، فقال ليزيد ابن مزْيَد الشيباني: كن مع عيسى(1)؛ فأبى فقال: أتَأْنَفُ- ويْحك- أن تكون معه؟ فقال: يا أمِير المؤْمِنِينَ، إنِّي حلَفْتُ يميناً ألا أكون عليك في جَدٍّ ولا هزْلٍ!"(2).
ويلحظ المتأمل هنا اعتماد يزيد الشيباني على استغلال الموقف لصالحه؛ ليعلن للرشيد مطلق الولاء له، وهو أسلوب ذكي استطاع به أن ينفذ بجلده من غضب الرشيد وقبضته!
وأما حميد الطوسي؛ فقد سخط الرشيد عليه؛ "فدعا لهُ بالنَّطْعِ والسَّيْفِ، فبكى، فقال: ما يُبْكِيكَ؟ قال: وَاللهِ! يا أمير المؤْمِنِينَ، ما أفْزع ُمن الموْت؛ فَإِنَّهُ لاُبدَّ وَاقِع، وإنَّما بكَيْتُ أسَفاً على خروجي من الدُّنْيَا وأنت ساخِطٌ عليّ! فضحِكَ وعفا عنْهُ، وقال: إِنَّ الكريم إذا خَادَعْتَهُ انْخَدَعَا!"(3).
إنها خدعة ذكية؛ أظهر فيها حميد الطوسي براعته في الوقت المناسب، وذلك بإشعار الرشيد بأن رضاه عنه غايته التي يرجوها قبل موته؛ مستحقراً مصيبة الموت بهول سخط الرشيد عليه، وهي خدعة لم تخف عليه؛ وإنما أثارت في نفسه كوامن خلق كريم هو: العفو عند المقدرة!

ومما وقع لبعض القضاة: ما جاء لبعضهم من أخبار حول تهربهم من تولية الرشيد لهم على القضاء؛ فقيل: "عرض الرشيد على ابن عَيَّاشٍ القضاء بالمدينة، وجَاِئزَتُهُ: أرْبعةُ آلاَفِ دينارٍ؛ فأَبَى إلاَّ أَنْ يُلْزمَهُ ذلك، وقال: والله- يا أمير المؤْمِنِينَ لَئِنْ يَخْنَقنِي الشَّيْطَانُ أَحَبُّ إليَّ من ألِيَ القضاء! فقال الرَّشِيدُ: ما بَعْدَ هذا شيْءٌ!، وأعْفَاهُ وَأجازهُ بألْفيْ ديِنَارٍ"(4).
"وَرَوَى بَعْضُ الرُّواةِ عنْ وكيعٍ(5): قال لي الرَّشِيدُ: إنَّ أهل بلدك طلُبوا منِّي قَاضِياً، وقد رأيْتُ أن أُشركَكَ في أَمانَتي وصالِح عملِي؛ فَخُذْ عَهْدَكَ، فقُلْتُ: يَا أمِير المؤْمِنِينَ، أنا شيخٌ كبيرٌ وإحْدَى عَيْنَيَّ ذَاهِبَةٌ، وَالأُخْرَى ضَعِيفَةٌ"(6).
ويبدو للمتأمل هنا البون الشاسع بين التخلّصين؛ حيث لجأ ابن عياش إلى معنى طريف وصورة خيالية منفرة؛ ليقطع بها على الرشيد كل طريق لإقناعه بولاية القضاء وإرغامه عليه؛ وقد نجح، على حين اضطر وكيع إلى أسوأ ما في واقعه وراح يعدد لنفسه عيوباً خلقيةً؛ لا تؤهله للقضاء. ومما وقع من حسن التخلص لبعض العلماء: ما جاء عن الإمام مالك -رحمه الله- عندما طلب منه الرشيد إقراء صبيان القصر، ولم يرُق له ذلك تكريماً للعلم وأهله:
قال الإمام مالك رحمه الله:"دَخَلْتُ على هارُون الرَّشيدِ، فقال لي: يا أَبَا عبدالله، يَنْبَغِي أَنَّ تَخْتَلفَ إِليْنَا؛ حَتَّى يسْمع صبْيانُنا مَنكَ المُوطَّأ، قال: فقلت: أعزَّ اللّه موْلانا الأمير! إن هذا العلم منكم خرج؛ فإن أنْتُمْ عَزَزْتموه عز، وإن أنتم أذْلَلْتُموهُ ذَلَّ، والعلْمُ يُؤْتَى ولا يَأْتِي، فقال: صَدَقْتَ، اخْرُجُوا إِلَى الَمسجِدِ؛ حَتَّى تَسْمَعُوا مع النَّاسِ"(7).

وكذلك ما جاء عن محمد بن الحسن الحنفي رحمه الله؛ حين أقبل الرشيد فقام إليه الناس كلهم إلا هو؛ فقال له: "مَا لَكَ لَمْ تَقُمْ مع النَّاسِ؟ قال: كَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ عَنِ الطَّبَقَة الَّتي جعلْتني فيها؛ إنَّك أهّلتَنِي للْعلْمِ؛ فَكَرِهْتُ أنْ أخرُج عنْهُ إلى طبقة الخدْمة الَّتي هي خارجةٌ عنْهُ، وإنَّ ابْنَ عمِّك صلى الله عليه وسلم قال: (من أحبَّ أَن يتمثَّل له الرِّجالُ قِيَاماً؛ فلْيتبوَّأْ مقْعدهٌ من النَّار)(. وإنَّما أراد بذلك العُلَمَاءَ؛ فَمَنْ قام بحقِّ الخدْمةِ، وَإعْزَازِ المُلْكِ، فَهُوَ هَيْبَةٌ للْعدوِّ، ومنْ قَعَدَ اتَّبع السُّنَّة التي عَنْكُمْ أُخِذَتْ؛ فَهُوَ زَيْنٌ لَكُمْ. قال: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّد"(9).
وهنا ترى الإمام مالك قد دخل إلى الرشيد مدخلاً ذكياً؛ حين تخلص من طلبه هذا بأن نَسَبَ العلم إلى بيت الخلافة مذكراً إياه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي وسيلة ذكية طالما استخدمها الأدباء من أهل الشعر والنثر في التأثير عليه.
واعتمد محمد الحسن- في تخلصه من مغبة فعله- على الرد العقلاني المقنع، والمقوى بالدليل النقلي والعقلي.
ومما وقع لبعض النحاة: ما روي عن الفرّاء؛ حيث دخل على الرشيد؛ "فتكلَّم بكلامٍ، فلحن فيه مرَّات، فقال جعْفرُ بن يحيى: إنَّهُ لحن يا أمير المُؤْمِنِين، فقال الرَّشِيد للفرَّاءِ:: أتَلْحَنُ؟ فقال الفرَّاء: يا أمير المؤْمِنِينَ، إنَّ طِبَاعَ أهْلِ البَدْوِ الإعْرَابُ، وطِبَاعَ أهل الحَضَرِ اللَّحْنُ؛ فإذا تَحَفَّظْتُ لَمْ أَلْحن، وإذا رجعْتُ إلى الطَّبعِ لحنْتُ. فاستحسن الرَّشِيدُ قوْلهُ!"(10).
ولعلك تلحظ هنا أن صدق الفراء في الجواب، وتفسيره لما حدث منه تفسيراً علميا وواقعياً؛ هو سر تخلصه من هذا الموقف، والداعي لاستحسان الرشيد له. ومما وقع لبعض عامة الناس من الأعراب وغيرهم: تخلص أعرابي وفد عليه الرشيد؛ فلم يقدم له إلا الخبز اليابس! ؛ فقد جاء في الخبر:
"قال الرَّشِيدُ لجعفر بن يحيى في سفرٍ له إلى الرَّقَّة: اعدل بنا عن غُبارِ العَسْكَرِ؛ فمالا عنْهُ، فأصاب الرَّشيدَ جُوعٌ شديد؛ فعدل إلى خيْمَةِ أعرابيٍّ؛ فاسْتَطْعَمَ؛ فأتَاهُ بكُسيْرَاتِ خُبْزٍ يابس! فقال جعْفَرُ: قد تبذّل الأعْرَابِيُّ فيما قدَّم، فقال الأعْرَابيُّ: مهْلاً ويْحَكَ! فإنًّ الجُودَ بَذْلُ الموْجُود؛ أما سمعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ :
وما ذاك من بخل ولا من ضَرَاعَةٍ ..... يُلاَم ُعلى معروفه وهو مُحْسِن
ألم تر أن المرْء منْ ضيقِ عيْشهِ ...... ولكنْ كما يَزْمُر له الدَّهْرُ يَزْفُنُ
فقال الرَّشيدُ: صدق الأعْرابيُّ وأحسن، ثم أمر له بعشرة آلاف درهمٍ"(11).

وكذلك تخلَّص أحد الشاكين إلى الرشيد وإليَه عليَّ بن عيسى بن ماهان؛ فقد "كان هارون حلف أن يقتُل كلَّ من شكا عليَّ بن عيسى؛ فشكاهُ رجلٌ، فقال لهُ: قد سمعت يميني؛ فأيُّهُمَا أحبُّ إليك، أقتْلُك أو أبعث بك إليْه؟ قال: ابْعثْ بي إليْه، قال: لم؟ أهو أَرْأَفُ بك منِّي؟ قال: لا، ولكنْ يكونُ خَصْمي رجل من العامَّة أحبُّ إليَّ من أنْ يكون خَصْمِيَ يوْم القيامة ابنُ عمِّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم! فعفا عنه"(12). ويبدو أن الأمر هنا: إنما هو استغلال لأمرين قريبين من نفس الرشيد، وعَزْفٌ على وترين حساسين لديه: هما شغفه بالحكمة والشعر وتأثره بهما، وما عرف عنه من حرص على تأكيد هذه القرابة الشريفة في نفوس الناس؛ إذ يراها تقوية لأحقيته بالخلافة؛ لذا كان لهما أبلغ الدور في التخلص من هذين الموقفين الحرجين.

وأما تخلص بعض الأطفال: فقد ذُكر أن يحيى بن خالد البرمكي وصف "الفضْل بن سهْلٍ(13)، وهو غلامٌ على المجُوسيَّة، وذكر أدبهُ وحسن معرفته. فعمل على ضمِّه إلى المأْمُون، فقال ليحْيى يوماً: أدخل إليَّ هذا الغُلام المجوسيَّ؛ حتَّى أنظر إليه؛ فأوصلهُ، فلما مثل بين يديه ووقف؛ تحيَّر، فأراد الكلام فأرْتِجَ عليه؛ فأدركته كَبْوةٌ. فنظر الرَّشيدُ إلى يحْيى نظرةً منكرةً؛ لما كان تقدَّم منْ تَقْرِيظِهِ إيَّاهُ؛ فانْبعث الفضْلُ بْنُ سهْلٍ، فقال: يا أمير المؤْمِنِينَ: إن من أَبْيَنِ الدِّلالَة على فراهة الممْلُوكِ شدَّةُ إِفْراطِ هَيْبِتهِ لسيِّده!، فقال له الرَّشيدُ: أحسنْتَ والله! لئنْ كان سُكُوتُكَ؛ لتَقُول هذا؛ إنَّهُ لحسنٌ، ولئنْ كان شيئاً أدركك عند انْقطَاعِكَ؛ إنَّه لأحسنُ وأحسنُ! ثُمَّ جعل لا يسْأَلْهُ عنْ شيءٍ؛ إلا رآه فيه مقدَّماً؛ فضمَّه إلى المأْمونِ).(14).
وهكذا يتجلى في تخلص هذا الطفل الأديب ومن سبقه: ما للثقافة وحسن المنطق وفصاحته، وللذكاء المتمثل في سرعة البديهة وقوة الاستحضار؛ من دور كبير في وصول هذه التخلصات إلى أهدافها بكل جدارة وروعة، ولعل موقف أصحابها الحرج، وحرصهم الشديد والسريع على إصابة المعنى، والقدرة على التأثير في المتلقي وإقناعه بصرف النظر عما عزم عليه أو عن الرأي الذي تبناه تجاههم- هو ما دعاهم أن يؤدوها بلغة سهلة وواضحة وبعبارات موجزة لا حشو فيها ولا تعقيد؛ مع ندرة توظيف الخيال فيها؛ لضيق الوقت، وخطورة الموقف، وانشغال الذهن بما لا يسمح بشيء منه.

الهوامش :
(1) عيسى بن جعفر بن المنصور، أخو زبيدة زوج الرشيد، وابن عمه، وقائد من قواد بني العباس، وأمير من أمرائهم، توفي قتيلاً سنة 185ه. الأعلام102/5
(2) ربيع الأبرار 672/1-673، ووفيات الأعيان 337/6، ونثر الدر 165/2
(3) التذكرة الحمدونية 249/8، والبصائر 122/7 .
(4) ترتيب المدارك وتقريب المسالك ص 158، والديباج المذهب 344/2، وتاريخ قضاة الأندلس ص 31-32 .
(5) وكيع بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرؤاسي، حافظ للحديث ثبت، كان محدث العراق في عصره، عرض الرشيد عليه القضاء فأبى، كان مولده بالكوفة سنة 129ه، وله جملة من المصنفات، وتوفي سنة 197ه، تاريخ بغداد 496/13 .
(6) سير أعلام النبلاء 151/9، وأخبار القضاة 184/3 .
(7) إحياء علوم الدين ص 32/1، وتاريخ دمشق الكبير 220/69 .
( رواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ قريب، 121/28، رقم الحديث: 16918، وقال محققو المسند: إسناده صحيح، ورجاله ثقات؛ رجال الشيخين.
(9) نشوار المحاضرة 186/6 .
(10) إنباه الرواة /4 7-8 .
(11) ربيع الأبرار 679/3 .
(12) البصائر والذخائر 66/7 .
(13) الفضل بن سهل بن يزْدَا نَفْروخ، أبو العباس السرخسي، ولد سنة 154ه، وكان مجوسيا وأسلم سنة 190ه، وكان يلقب بذي الرئاستين؛ لأن المأمون ولاه الوزارة وقيادة الجيش، وكان حازما عاقلاً وشاعراً فصيحاً، قتل سنة 202ه. وفيات الأعيان 41/4 .
(14) المحاسن والأضداد ص 14، والمحاسن والمساوئ ص 437-438 .